آخر الأخباراخبار مصر › مذكرات رأفت الهجان بخط يده: وجهًا لوجه مع أول ضابط مخابرات مصري (ح 7)

صورة الخبر: رفعت الجمال
رفعت الجمال

في يوم كهذا قبل 34 عامًا، كان يرقد في سريره ينتظر الرحيل، يكتب بأصابعه المريضة آخر الكلمات عن حياته، تلك التي حفلت بكثير من المغامرات والأسرار التي لم تكن سوى لعبة، بل أخطر ألعاب الدنيا، لم يختر هو أن يلعبها، بل فُرضت عليه، لكنه أتقنها حتى أصبح ملكها، إنها لعبة الجواسيس التي قادته من قلب القاهرة لقلب تل أبيب، ليصبح عينًا لا تنام، تراقب كل شيء وأي شيء في أرض العدو، ويصبح أهم «قطعة» للمخابرات المصرية في لعبة شطرنج، ربما لن تنتهي أبدًا، بينها وبين الموساد، إنه جاك بيتون، أو رفعت الجمال، أشهر جاسوس في تاريخ مصر، إنه من تعرفه أنت باسم «رأفت الهجان».

«المصري لايت» تنشر مذكرات الجاسوس المصري رفعت الجمال على حلقات، كما كتبها هو بخط يده، وحسب روايات زوجته، «فولتراود الجمال»، التي نشرتها في كتاب يحمل اسم «قصة الجاسوس المصري رفعت الجمال.. 18 عامًا من الخداع لإسرائيل»، الصادر عن «دار الأهرام للترجمة والنشر»، عام 1994، وذلك بمناسبة اقتراب ذكرى وفاته في 30 يناير 1982.

مغامرات رفعت الجمال عبر العالم انتهت به في قسم بمصر الجديدة، ليستدعيه رجلًا «ضخم البنية، يوحي بالجدية، يرتدي ملابس مدنية، هادئ الصوت في ود حين يلقي أوامره»، حسب وصفه، ويجلس معه وحيدًا، في حين تخلص الشاب المصري من القيود الحديدية بنفسه في مشهد ربما أبهر أو أقلق الرجل الذي جلس في مواجهته، ليدور حديث بينهما رواه «الجمال» كالتالي، في مذكراته.

«قدم لي نفسه قائلًا: اسمي حسن حسني من البوليس السياسي.

قفزت إلى رأسي علامة استفهام كبير: ما علاقتي أنا بالبوليس السياسي؟ إن المباحث الجنائية هي وحدها المسؤولة عن الجرائم التي يحاولون اتهامي بها.

استطرد الرجل قائلًا: لا أستطيع أن أخاطبك باسمك لأنني لا أعرف أي اسم استخدمه من أسمائك الثلاثة، يجب أن تعرف أن قضيتك صعبة جدًا، ليست المسألة خطورة جرائمك، بل لأننا ببساطة لا نعرف من أنت، إن الثورة في بلدنا لا تزال حديثة العهد، بلا خبرة أو استعداد، ونحن لا نستطيع إصدار وثائق إثبات الشخصية للجميع لأننا لا نملك الوسائل اللازمة ولا العاملين اللازمين لذلك، وكما ترى فإنني صريح معك، وحيث أنك حتى هذه اللحظة مجرد مشتبه فيه، فالواجب يقضي بأن لا تبقى في الحجز أكثر من يومين، بعد هذا لابد من عرضك على قاض أو إطلاق سراحك، ولكن يجب أن نتحفظ عليك حتى تفصح لنا عن حقيقة هويتك، نحن في ثورة ولسنا على استعداد لتحمل أي أخطاء في هذه المرحلة.

أنصت إليه بانتباه محاولًا تصور ما يرمي إليه.
واستطرد قائلًا: أود أن أغلق قضيتك. لا يوجد أي بلاغ عن سرقة جواز سفر بريطاني باسم دانييل كالدويل، ولا أستطيع أن أفسر كيف ظهر في ملفك إنك يهودي اسمك ديفيد آرونسون، ثم إن رفعت الجمال لا توجد اتهامات ضده ولا أبلغ هو عن سرقة أي شيكات سياحية، سأدعك تخرج إلى حال سبيلك شريطة أن أعرف فقط من أنت على حقيقتك، والآن ما هو قولك؟

قلت له:

– ألا تريد أن تخبرني لماذا أنت مهتم بي؟ واضح إنني لست هنا بسبب اتهام ما.

وكان رده:

– أنا معجب بك، إجابتك أسرع مما توقعت.

تصورت أنه ما دام من البوليس السياسي، وهو ما أصدقه، فليس من المنطقي أن يعرفني باسمه مع أول اللقاء، إلا إذا كان على يقين من أمري.

كان عمل البوليس السياسي في ذلك الوقت يشبه عمل من المخابرات، وعلى الرغم من إدعائه من أنهم لا يملكون الإمكانيات إلا أنهم كانوا يعملون بدأب شديد.

استطرد قائلًا:

– أنا مهتم بك، فقد تأكد لنا أنك قمة في الذكاء والدهاء، لقد أثرت حيرة للمسؤوليين إزاء ما ظهرت به حتى الآن، قد تكون إنجليزيًا، أو يهوديًا، أو مصريًا، غير أن ما أثار اهتمامي كثيرًا بشأنك هو أن أحد رجالنا الذين دسسناهم بينكم في حجز الإسكندرية أفاد بأن جميع النزلاء اليهود الآخرين اعتقدوا عن يقين أنك يهودي.

دهشت للطريقة التي يعملون بها، لقد وصل بهم الأمر إلى حد وضع مخبرين داخل السجن للتجسس على الخارجين على القانون.

وواصل حسن حسني حديثه قاصدًا مباشرة إلى ما يرمي إليه فقال:

– يجب التزام الحذر، أعداء الثورة في كل مكان ويريدون دفع مصر مرة ثانية إلى طريق التبعية للأجانب وكبار الملاك الزراعيين، بيد أن هذا موضوع آخر، فأنت كإنجليزي لا يعنيك هذا في كثير أو قليل، وأنا على يقين من أنك لا تضمر كراهية للشعب المصري.

انفجرت فجأة قائلًا:

– هذه إهانة أنا مصري، وحريص كل الحرص على مصر وشعبها.

صحت وصرخت بأعلى صوتي لهذه الإهانة التي وجهها لي ما أن انتهيت من ثورتي الغاضبة حتى أشعل سيجارة وابتسم ابتسامة المنتصر، وعندئذ عرفت أنني وقعت في المصيدة التي نصبها لي، عرفت أنه انتصر علي، فقد استفزني إلى أقصى الحدود ليجعلني أظهر على حقيقتي، واستطاع ببضع كلمات عن أعداء مصر أن يجعلني أكشف الستر عما أخفيته.

وهنا قال:

– رفعت أنا فخور بك، أنت مصري أصيل، أطلب منك أن تخبرني شيئًا واحدًا وبعدها سأعترف لك بالسبب في أنك هنا، وفي أني مهتم بك أشد الاهتمام، كيف نجحت في جعل اليهود يقبلونك كيهودي؟

أجبت قائلًا:

– هذه قصة طويلة، وأنا واثق من أنك لا تريد سماعها.

وكانت إجابته:

– جرب عندي وقت طويل.

سألته:

– وفيما يهمك هذا؟

رد:

لأنني بحاجة إليك، وعندي عرض أريد أن أقترحه عليك.

ربما كنت انتظر هذه اللحظة، إذ سبق لي أن عشت أكاذيب كثيرة في حياتي، وبعد أن قضيت زمنًا طويلًا وحدي مع أكاذيبي، أجدني مسرورًا الآن إذ أبوح بالحقيقة إلى شخص ما. وهكذا شرعت أحكي لحسن حسني كل شيء عني منذ البداية، كيف قابلت كثيرين من اليهود في استوديوهات السينما، وكيف قلدت سلوكهم وعاداتهم من منطلق الاهتمام بأن أصبح ممثلًا.

وحكيت له عن الفترة التي قضيتها في إنجلترا وفرنسا والولايات المتحدة الأمريكية، ثم أخيرًا في مصر. بسطت له كل شيء في صدق أمامه، إنني مجرد مهرج، مشخصاتي عاش في التظاهر ومثل كل الأدوار التي دفعته إليها الضرورة ليبلغ ما يريد في حياته.

بعد أن فرغت من كلامي اتسعت ابتسامة حسني أكثر مما كانت وقال لي:

– رفعت الجمال، أنت إنسان مذهل، لقد اكتسبت في سنوات قليلة خبرة أكبر بكثير مما اكتسبه شيوخ على مدى حياتهم، أنت بالضبط الشخص الذي أبحث عنه، يمكن أن نستفيد منك استفادة حقيقية.

وكان سؤالي هذه المرة:

– ما الذي تريدني من أجله.

أجاب قائلًا:

– كما قلت لك من قبل هناك مشكلات خارجية كثيرة تواجه مصر، وتوجد في مصر أيضًا رؤوس أموال ضخمة يجري تهريبها، والملاحظ أن كثيرين من الأجانب، وخاصة اليهود، هم الذي يتحايلون لتهريب رؤوس الأموال إلى خارج البلاد. يمكنهم تحويل مبالغ بسيطة فقط بشكل قانوني، غير أنهم نظموا فرقًا تخطط وتنظم لإخراج مبالغ ضخمة من مصر، واليهود هم الأكثر نشاطًا في هذا المجال.

إن إسرائيل تأسست منذ خمس سنوات مضت، وهناك كميات ضخمة من الأموال تتجه إليها، ونحن ببساطة لا نستطيع تعقب حيلهم، ومن ثم فنحن نريد أن نغرس بينهم شخصًا ما، يكتسب ثقتهم ويطمئنون إليه، وبذا يكتشف حيلهم في تهريب أموالهم إلى خارج البلاد، كما يكشف لنا عمن وراء ذلك كله. نريد أن نعرف كيف تعمل قنوات النقل التي يستخدمونها وكل شيء آخر له أهمية وأنت الشخص المثالي لهذا العمل، الشخص الذي نزرعه وسطهم لابد وأن يكون يهوديًا، ولقد استطعت إقناعهم بأنك كذلك، ما رأيك؟ هل أنت على استعداد لهذه المهمة؟

حدقت فيه كأنه نزل إلي من السماء، لم أشعر بالاطمئنان، ولم تكن لدي فكرة عما أنا مزمع عمله. أوضح لي أنني أفضل فرس رهان بالنسبة له، وأضاف أنهم سوف يتولون تدريبي وإيجاد قصة جيدة الإحكام لتكون غطاء لي، ثم يضعوني وسط المجتمع اليهودي في الإسكندرية.

سألته:

– وماذا يعود علي أنا من هذا؟

رد:

– سيتم محو ماضي رفعت الجمال تمامًا، ويجري إسقاط جميع الإجراءات القضائية الأولية لإقامة دعاوى ضدك بسبب جوازات السفر المزورة، والبيانات الشخصية عن علي مصطفى وشارلز دينون ودانييل كالدويل، وأي أسماء أخرى سبق لك أن استعملتها، كما سيتم إسقاط أي اتهامات أخرى ضدك، وسوف تستعيد قيمة شيكاتك السياحية، أو تكتب بالاسم الذي تتخذه لنفسك وتعيش به كيهودي، هل نعقد الصفقة معًا؟.

عدت لأسأله:

– هل لي حق الاختيار؟

رد:

– من حيث المبدأ لك الخيار، فإذا كنت قد اعتدت على حياة السجن، فمن المؤكد أنك تستطيع اختيار هذا لأن السجن سيكون هو مكانك ومآلك زمنًا طويلًا ما لم تسقط الاتهامات ضدك.

– وكيف نبدأ إجرءاتنا من هنا إذا ما قبلت عرضك؟

– سنشرع في تدريبك على الفور، سيكون تدريبًا مكثفًا ويحتاج إلى زمن طويل، وسوف تكون لك شخصية جديدة وتنسى ماضيك تمامًا، وما أن توضع في مكانك الجديد حتى تغدو مسؤولًا عن نفسك، لن يكون لنا دور سوى دعمك بالضرورات، ولن نتدخل إلا إذا ساءت الأمور، أو أصبح الوضع خطرًا.

جلست في مكاني أفكر في الفرص المتاحة لي، مدركًا ألا خيار آخر أمامي إذا لم أشأ دخول السجن، لقد أوقع بي حسن حسني حيث أراد لي، ولا حيلة لي إزاء ذلك. وقفت وبسطت يدي لأصافحه موافقًا وأنا أقول له:

– حسنا، أظنك أوقعت بي حيث تريد لي أن أكون، إذن لنبدأ.

أجاب وعلى شفتيه ابتسامة:

– أنا سعيد جدًا أن أسمع هذا منك».

المصدر: almasryalyoum

قد يعجبك أيضا...

أضف هذا الخبر إلى موقعك:

إنسخ الكود في الأعلى ثم ألصقه على صفتحك أو مدونتك أو موقعك

التعليقات على مذكرات رأفت الهجان بخط يده: وجهًا لوجه مع أول ضابط مخابرات مصري (ح 7)

كن أول شخص وأضف تعليق على هذا الخبر الآن!

أكتب تعليقك
إسمك
البريد الإلكتروني

لن يتم إظهار بريدك الإلكتروني مع التعليق

الرقم السري
82241

من فضلك أكتب الرقم الظاهر أمامك في خانة الرقم السري

تابع وشارك ثورة 25 يناير على صفحتك في فيسبوك وتويتر الآن:

أخبار مصر الأكثر قراءة

كل الوقت
30 يوم
7 أيام